وقفت حوالى ساعة فى طابور الانتخابات الطويل أمام مدرسة حى أول الإعدادية بالإسماعيلية وأنا مستمتع برصد التفاصيل الصغيرة التى لا بد أن تشعر معها بأن مصر فعلاً تغيرت، برغم درجة الحرارة المرتفعة فإن الجميع كان ملتزماً، لم يصب واحد منهم بملل ولم يتأفف غنى من أن يسبقه فقير فى الطابور، مصر تريد أن تنهض لكن كاهلها مثقل بأورام تخلف وفقر ومرض تجعل من صندوق الانتخابات مجرد آلية تصويت، وتجعل الديمقراطية الحقيقية حلماً لن يتحقق إلا فى مناخ يجعل من الحرية بكافة أشكالها خيمة الأوكسجين التى يتنفس فيها الناس، ويجعل من القمع والقهر باسم الدين مجرد ذكرى، ويجعل الناخب لايشكو من جوع البطن أو فراغ العقل أو حاجة العوز وهو يضع تذكرته فى الصندوق.

أرضية التغيير وأبجدياته موجودة فى جيناتنا المصرية، ساكنة فى التفاصيل الصغيرة التى رصدتها فى طابور انتخاب الرئيس، عجوز مستند على عكازه يعانى من الباركنسونزم ( الشلل الرعاش ) يصر على الانتخاب، سؤال بديهى ومشروع، ماذا يريد هذا الرجل البسيط الغلبان الذى يعانى من مرض لا علاج له؟، هل مازال فيه نبض الحلم برغم رعشة الأطراف؟، كل من فى الطابور يفسح له المقدمة ليتخطى الطابور ويدخل اللجنة وينتخب، من الممكن أن يعود إلى بيته ولاينزل منه بعد ذلك إلا إلى مثواه الأخير، ولكن يكفيه أنه شارك.

سيدة بسيطة مرت بجانب الطابور لتسأل أحد الواقفين يابنى أنا محتارة أنتخب مين، انت حتنتخب مين يابنى؟ يرد الواقف بجدية وتجهم وألفاظ محددة: ماقدرش أقول لك ياحاجة، انتخبى اللى انتى شايفاه يصلح! كل الطابور فى توك شو مفتوح على الهواء مباشرة، يتضاءل إلى جانبه أقوى برامج التوك شو على الفضائيات!! مخزون رهيب من الجدل السياسى يشترك فيه كل الأطياف من لابسى السينيهات والكرافتات حتى لابسى البلغ والملايات!

أثناء مرور المستشار العسكرى وتفقده للجنة الانتخاب، دار حديث ودى بينه وبين الطابور يتضح معه قدرة المصرى المعجزة المبهرة على شطب وضغط زر «ديليت» وقت اللزوم على كل مشاهد فضائيات الاحتقان مابين مظاهرات الشارع والجيش، المستشار يتحدث بصوت هادئ ويشرح لهم الفرق مابين سهولة وسرعة انتخابات مجلس الشعب وصعوبة وزحام انتخابات الرئيس وماهى الأسباب، والناس تناقش بلا رهبة وأيضاً بلا تجاوز لفظى من الممكن تبريره وتمريره بحجة الزحمة والحر والتوتر.

المدهش هو فى القاموس والمفردات التى سكنت ألسنة ناس فى منتهى البساطة لم يحصلوا على أى قسط من التعليم وصارت من ضمن مصطلحاتهم العادية، سمعت أحد عمال النظافة وهو يهدئ من ثائرة مهندس زهقان من طول مدة الوقوف، اهدى يابيه كلها دقايق وكلنا حنمشى ..ماتنساش إن دى أول مرة نرسم فيها مستقبل مصر!!